“أشكر مصر قيادة وشعباً على الدعم والاهتمام الذى تحظى به جنوب السودان…لن نقدم على أى عمل من شأنه الإضرار بمصالح مصر…تحياتى وتقديرى للرئيس عبد الفتاح السيسى لحكمته ولإصراره على العبور بمصر إلى بر الأمان تنموياً واقتصادياً …نحن نحتاج للخبرات المصرية لتحقيق التنمية..”
كانت تلك هى الكلمات التى عبر بها الرئيس سلفاكير عن مشاعره تجاه مصر أثناء لقائه فى القصر الرئاسى بالعاصمة جوبا والتى توجت 72 ساعة حافلة بالأنشطة واللقاءات التى أمضيتها مع وفد رسمي من وزارات الرى، والصحة، والإسكان، لتفعيل الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي وقعت مؤخراً، والتباحث حول التعاون الثنائي فى عدة مجالات لصالح تحسين مستوى معيشة مواطنى جنوب السودان.. فى رسالة واضحة ترسلها مصر بأن علاقاتنا مع دول الحوض لا تقتصر فقط على ملف المياه – شديد الأهمية والحيوية لنا – لكنها تمتد أيضا لتلبية الاحتياجات المُلحة لتلك الدول .
وبالرغم من انها الزيارة الاولى لى لتلك الدولة الناشئة، لكننى والوفد المرافق لمسنا بوضوح فى لقاء السيد سيلفا كير، وفى لقاءات كل المسؤولين الرسميين هناك تقديرا كبيرا للدور الذى تقوم به مصر فى جنوب السودان. ويذكر المسؤولون هناك ان علاقات البلدين قديمة وتتجاوز بكثير الاعلان الرسمى عن الدولة فى عام 2011، كما تشهد تلك العلاقة تطورا ملحوظا فى كافة المجالات
استهدفت الزيارة استعراض موقف مشروع التعاون الفني بين البلدين الذى يتم تنفيذه بمنحة مصرية قدرها 26.6 مليون دولار، وأنشطة تطهير المجاري المائية من الحشائش في حوض بحر الغزال واستكمال مشروع حفر وتجهيز 30 بئر جوفي بالولايات المختلفة لأغراض الشرب، وإنشاء المراسي النهرية لفتح مجالات الصيد والتجارة لمواطنى جنوب السودان، وأيضاً الانتهاء من إعداد دراسات الجدوى لسد واو متعدد الأغراض على نهر سيوي بحوض بحر الغزال بتكلفة حوالى مليون دولار هدية من مصر لشعب جنوب السودان. كما تضمنت ترتيبات إقامة وتشغيل المعمل المركزى لتحليل نوعية المياه بجوبا، وإعادة تأهيل محطات قياس التصرفات والمناسيب على روافد نهر النيل بجنوب السودان واستكمال إنشاء محطة رفع مياه الشرب بنطاق مدينة واو ، بالإضافة الى مكون برامج التدريب وبناء القدرات المستمر منذ 2006 وحتى الآن.
أيضاً تناولت المباحثات كيفية تفعيل عدد آخر من المشروعات المقترحة من الأشقاء بجنوب السودان من أهمها مشروع إنشاء مزرعة نموذجية على مساحة 100 فدان بولاية غرب بحر الغزال، واقامة عدد من سدود حصاد مياه الأمطار ، لحماية القرى والطرق اثناء موسم الامطار.
كما تم الاتفاق على أن تقوم مصر بوضع مخطط عمراني شامل للعاصمة جوبا كمدينة استرشادية. وتنفيذ برنامج متكامل لبناء القدرات وتأهيل الكوادر البشرية المتخصصة بالتنسيق مع معاهد النقل والطرق والتخطيط العمرانى المصرية. وتم تقديم الدعم المصرى فى مجال إتاحة برامج أكاديمية للفنيين للحصول على الدرجات العليا فى مجال التخطيط العمرانى وسياسات التطوير العمرانى الحديثة.
وخلال أيام الزيارة الثلاثة التى شهدت لقاءات مكثفة، انطبع فى ذهنى مشهدين لا يمكن أن أنساهما. الأول مشهد مياه تتدفق من صنبور بسيط فى السوق الريفى بقلب العاصمة جوبا، ترتفع على إثره الهتافات تحية وتقديرا لمصر والشعب المصرى، وتنطلق الأغانى الفلكلورية بموسيقاها المميزة لتعلن عن سعادة أهالى المنطقة بتوافر مياه نظيفة تحميهم من الأمراض المتوطنة وعلى رأسها مرض الكوليرا. فبالرغم من أننا فى قلب جوبا العاصمة إلا أن المياه النظيفة لا تتوافر سوى فى الفنادق والمبانى الرسمية، ولم يرها أهالى العاصمة إلا على أيدى الخبراء المصريين، حيث اعتاد الأهالى على استخدام مياه النيل بشكل مباشر وبدون أى معالجة لتلبية أغراضهم المختلفة، أو قطع مسافات طويلة تصل الى كيلومترات لرفع المياه من آبار قديمة على حواف المدينة.. إنه باكورة آبار مياه الشرب بمدينة جوبا ضمن مشروع حفر وتجهيز 30 بئر جوفى مخصصة لأغراض الشرب المهداة من مصر لشعب جنوب السودان.
المشهد الثانى كان فى المستشفى الحكومى فى جوبا الممتلئ بمرضى ينتظرون عمليات جراحية وعلاج يرتبط بكسور فى العظام أو رمد أو جراحة عامة. إنها القافلة الطبية المرافقة للوفد – والتى تضم 13 طبيبا من تخصصات مختلفة – ستجرى 1300 عملية خلال أسبوع واحد من اقامتها فى جنوب السودان، وهى معجزة طبية بكل المقاييس أن يتم إجراء هذا العدد من العمليات الجراحية خلال تلك المدة القصيرة. وقد حملت القافلة الطبية معها حوالى 4 طن أدوية وأجهزة ومستلزمات طبية فى مجال جراحات العظام، والرمد كهدية لشعب جنوب السودان، فالمركز الطبى المصري في جوبا استقبل منذ إنشائه عام 2008 أكثر من 300 ألف حالة في مختلف التخصصات الموجودة بالمركز ، وهى أمراض النساء والباطنية والمستوطنة والأطفال والجراحة العامة. بما يعنى أكثر من 200 حالة يوميا ويقدم خدمات شبه مجانية سواء كانت علاجية أو صرف أدوية
هذان المشهدان أكدا المعانى التى عبرت عنها كلمات الرئيس سيلفا كير والتى أوضحت بكل صدق ما يجب أن تكون عليه العلاقات بين مصر – الدولة العريقة والكبيرة مهما واجهت من صعوبات- وبين دولة ناشئة حديثا تربطنا بها علاقات قوية تتجاوز روابط المياه التقليدية. كانت ساعات الزيارة محدودة ولكن تأثيرها والنتائج المترتبة عليها تتجاوز بكثير تلك الساعات المحدودة، وهى ستكون فى صالح الشعبين المصرى وجنوب السودانى بكل تأكيد حفظ الله مصر وشعبها ونيلها من كل سوء