نشرت وسائل الاعلام اخيرا خبرا حول إعلان فرع دمياط خاليا تماما من الأقفاص السمكية ، وذلك بعد الحملة التي قادتها وزارة الموارد المائية والرى بالتنسيق مع محافظة دمياط، والقيادات الأمنية ، وتشكيلات من قوات الجيش الثانى وأسفرت عن إزالة نحو 1016 قفصاً سمكيا ، وكان يوما عصيبا أن أشاهد هذه الغابة من الأقفاص في فرع دمياط الذي يوجد عليه 32 محطة لمياه الشرب وتعوق حركة الملاحة فى النهر، وقد أعاد هذا الخبر الجدل من جديد حول ملف الاقفاص السمكية وجدواها في النيل باعتبارها مصدراً للرزق يتعيش منه عدد من الصيادين، أم تتم إزالتها لأضرارها البيئية والصحية.
والحقيقة أن تجربة الأقفاص السمكية بدأت فى مصر عام 1986، حينما قام عدد من تجار الأسماك فى دمياط بإنشاء أقفاص لتربية السمك البلطى فى قلب مجرى النيل ، بدأت التجربة بأربعة أقفاص، ونظرا لارتفاع العائد الاقتصادي لها فقد شجع هذا على إقامة المزيد منها دون ترخيص ، مما أدى لاتخاذ الحكومة بعض الإجراءات للحد من الانتشار العشوائي لهذه الأقفاص والتى رفضها اصحاب المزارع، فطالبوا باستمرار وضعها على أساس أن ازالتها سيعرضهم لضياع رءوس الاموال التي انفقت لانشائها، وساند عدد من أعضاء مجلسي الشعب والشورى فى عام 2000 فكرة اعطاء مهلة لازالة الاقفاص الموجودة بالمياه العذبة وتوفيق اوضاع الأقفاص الموجودة بالمياه المالحة ، وبالفعل تمت الموافقة على تأجيل إزالة الاقفاص المخالفة حتى ديسمبر 2002 ، ثم أغسطس 2003 ثم ديسمبر من نفس العام ، ثم فبراير 2004 ،وعقب ثورة يناير زاد عدد تلك الأقفاص حتى وصلت حاليا إلى حوالي 10 آلاف قفص سمكي .
وتم مؤخرا تشكيل لجنة من ممثلين عن وزارات الرى، والزراعة والبيئة، والصحة، لتقييم الوضع الحالى للأقفاص السمكية، وأخذ عينات من مواقع مآخذ المياه إلى محطات الشرب. قامت هذه اللجنة بتحليل المياه والأسماك، وجاءت نتيجة التحاليل لتؤكد عدم صلاحية المياه في مواقع الأقفاص لارتفاع نسبة القلوية، وارتفاع نسبة الأكسجين المستهلك كيماويا، وارتفاع نسبة الأكسجين الحيوى الذى يستهلكه السمك، وأخطر من ذلك أثبتت التحاليل المتعددة ارتفاع نسبة الأمونيا، والفلوريدات، والشحوم، والزيوت، ونقص معدل الأكسجين الذائب.
كما أن أصحاب الأقفاص يقومون بتغذية الأسماك بأعلاف ومواد غير صالحة ومليئة بالميكروبات من بقايا حيوانات وطيور وأسماك ميتة، ودماء، وعظام، ونفايات حيوانية. وإلقاء هذه المواد السامة فى مياه النيل تسبب فى تلوث المياه فى هذه المنطقة إلى درجة خطيرة جدا، حتى أصبحت هذه الأسماك كتلة من السموم تهدد صحة وحياة من يقع فريسة لها.
وتزداد خطورة تلك الأقفاص في وجودها أمام محطات مياه الشرب. كما أن التأثيرات السلبية لها تؤدي إلى وجود تجمعات كثيفة من الحشائش المائية بأنواعها المختلفة، والتي تسبب إعاقة وتقليل كفاءة تشغيل المجرى المائي، وإعاقة للملاحة بالنهر ، وبذلك تصبح هذه الاقفاص بعد انتشارها الهائل بمثابة ألغام تكمن تحت سطح مياه النيل ولا نراها، لكن مخاطرها تهدد كل مستخدمي مياه النيل.
وهناك عدد من البدائل المتاحة للأقفاص السمكية ، منها استخدام الاجزاء المالحة من نهر النيل خلف فارسكور وادفينا لإقامة المزارع السمكية ، وتعظيم استغلال البحيرات الشمالية والشواطئ البحرية ، وتنمية الثروة السمكية بمجرى النيل من خلال زيادة كمية الزريعة التي يتم اطلاقها حرة في المجرى لزيادة الكميات المنتجة وإتاحة فرص عمل على طول المجرى، خاصة بالوجه القبلي ، علاوة على استخدام المياه المالحة في إقامة مزارع سمكية بالصحراء الشرقية والغربية وسيناء ، ومن الممكن أن تساهم الدولة في انشاء الاحواض وحفر الآبار الجوفية للحصول على المياه لهذه المزارع كما هو مخطط له في مشروع المليون فدان بمنطقة المغرة. كما يجب أن نضع في الاعتبار أن هناك عددا من الاجراءات يمكن تنفيذها لحين تطبيق هذه البدائل ، مثل وضع جدول زمني لنقل الاقفاص مع ترك مهلة لأصحابها لجمع محصول الاسماك مراعاة للابعاد الاقتصادية والاجتماعية والانسانية ، والحد من تجفيف البحيرات الشمالية وتحويلها إلى ارض زراعية والتي تعتبر المرعى الطبيعي للأسماك ، وكذلك اعادة النظر في صياغة قوانين الثروة السمكية ونشاط الاسماك ومراجعة قوانين الصيد وتغليظ العقوبات مع إقرار مبدأ المصادرة للمخالف والاهم من ذلك تطبيق القانون بكل حزم ، وهو ماسيتم إقراره في قانون النيل الموحد الجاري إعداده.
والحقيقة ان الحكومة الحالية قد اهتمت بتوفير بدائل آمنة للمزارع السمكية لاتكون على حساب صحة المواطن المصرى. وبنظرة بعيدة للمستقبل كان تخطيط مشروع قناة السويس الجديدة ، المشروع القومي الذي تنعقد حوله آمال الشعب المصري في الوقت الراهن ، وحرصا من القيادة السياسية على تنفيذ مشروعات ذات عائد مستمر على المدى البعيد كان التفكير في إنشاء مزارع سمكية بمشروع القناة الجديدة ، وقد تم توقيع اتفاقية مع الجانب الإسبانى لإنشاء مزارع سمكية بهدف رفع مستوى الأمن الغذائى فى مصر. وتم الاتفاق على إنشاء المزارع السمكية على مساحة 6 آلاف فدان تضم 3800 حوض للاستزراع السمكى، وأن المرحلة الأولى سيتم خلالها إنشاء 460حوضا ، كما تجري حاليا اعمال تطهير بحيرة المنزلة من الرواسب وتطهير البواغيز لتحسين نوعية المياه، باعتبار أن ذلك أحد اهتمامات الدولة لتوفير فرص صيد جيدة بدلا من الصيد خارج الحدود الإقليمية الذي ينتج عنه مخاطر متعددة.
حفظ الله مصر وشعبها ونيلها من كل سوء